بقلم / تسنيم طه
-- يلا يا عوض الكريم، صدقني لن تندم على مرافقتي!
توسلتني أختي أشجان، لكنها لم تخبرني بأنها تخبئ لي مفاجأة لتخرجني من
عزلتي.
وبررت فقط بأننا سنزور أحد أقرباء أمي، لا يزورنا
كثيرًا لأن والدي لا يحبه؛ حتى يساعدني في إيجاد عمل استرزق منه بعد أن فقدت
وظيفتي في العاصمة.
وصلنا سوق "أبْ جَهَل" في حوالي العاشرة بينما الغيوم الرمادية
تنذر بأمطار غزيرة. زاحمنا جموع بشر يلتفون حول بائعي الألبان واللبن الرايب
والليمون والجرجير والطماطم على قارعة الطريق. وعندما توغلنا أكثر داخل السوق،
ومررنا بمحلات لحوم الضأن والعجالي، وفَسِيخ" كُوسْتي " وجبنة"
الدِّوِيم"، أصابني غثيان فظيعٌ، وكأنني لم أمر من هذه الأمكنة أثناء طفولتي
ومراهقتي، قبل أن أنتقل للعيش في الخرطوم.
خنقتني العبرة عند تذكر كيف طردُت من حياة الرخاء التي خبرتها في الفيلا،
التي أسستها بأموالي الخاصة، لتعود التساؤلات تنهشني: هل سأعود يومًا للنوم
والجلوس على الأثاث الفخم الذي جلبته نرجس من إيطاليا؟
وهل سأكون مجاب الأوامر من الخدم والحشم الذين أتت بهم من الفليبين
وسيرلانكا، لينتشروا في الفيلا الواسعة ويلبوا طلبات المدعوين على الحفلات
الأسبوعية، التي كانت تقيمها نرجس لأفراد عائلتها وصديقاتها من بنات الذوات الذين
يترأس آباءهم مناصب في الدولة مثل والدها؟
زفرتُ بعصبية، مع تصاعد غضبي تجاه نفسي لوقوعي ضحية لكيد النساء (نرجس
وأماني-إيناس)، وعودتي لنقطة البداية، أسعى مثلما كنتُ طالبًا قبل سنوات للحصول
على وظيفة توفر لي مصاريف يومي، بعد أن كنت أصرف راتبي الشهري بالدولار الأمريكي.
- لا تحمل هم يا عَوَضْ الكَرِيم! وان شاء الله
الفرج قريب!
طمأنتني أختي لما أحستْ باغتمامي، فتنهدتُ بعصبية، وتبعتها في زقاق ضيق
يسمح بالكاد بمرور المشاة، من كثرة حاويات البهارات والخضروات المجففة (بامية
وكول، وملوخية، وشمار وشطة) المنتشرة على جانبه. فحرك خليط هذه الروائح المحببة
معدتي، وتلهفتُ لتناول وجبة عصيدة دافئة بِمُلاح "تَقَلِيَّة"، رفقة
جرجير وشطة خضراء، أرمم بها عظامي.
فمنذ أيام، بعد تضاعف توتري بسبب تجاهل والد نرجس لمكالماتي، وتنامي تشاؤمي
بأنه سيحنث، انتقامًا مني على ما فعلته بابنته، بوعوده لي بخصوص أرباح الأموال
التي شاركته بها في المشاريع الاستثمارية طوال سنوات (تربية دواجن في الخوجَلاب
شمال بحري، رعي بهائم في كُرْدُفان، زراعة سمسم وبرسيم في سِنَّار، وتنقيب عن
الذهب في صَحَاري وجبال ولايتي نهر النيل والشمالية)، انقطعت شهيتي عن الأكل.
وصِرتُ أكتفي بغمس الرغيف الحاف في كوب شاي أحمر أو كوب قهوة، أتناولها
برفقة قهوة أمي، عندما تناديني لأجلس بقربها برهة تحت ظل الضحى، لحين وصول
صديقاتها الدجالات المشعوذات، اللاتي يفقنها مبالغة في سرد القصص الغرائبية (أثناء
تدخين للنارجيلة وضرب الودِع وقراءة الطالع والأبراج، تحت زوبعة من بخار التيمان)
عن مدينة "الأُبَيِّضْ" في الماضي، وعن الثورة المهدية وحامية
"بارا"، وعن عهد التركية
البائد وحاكم يُدعى "يوسِف دامير"، وعن ثورة قديمة في
مدنية تُسمى "السور" سُبيتْ فيها كثير من قريباتهن ومات فيها كثير من
الرجال، وعن أرواح أموات هائمة في الفضاء.
عند خروجنا من الممر، امسكتُ بيد أختي لأوقف تقدمها.
وترددتُ قبل أن أتعذر بحاجتي للأكل قبل مقابلة قريب والدتي. فرمقتني بنظرة
تعاطف دفعتني للاعتراف بعدم قناعتي بالحصول عن مهنة تجلبني إلى هذا السوق الشعبي
كل يوم، لأصبح مضطرًا لتحمل صياحات الباعة ورائحة عرق الزبائن وشدة الحرارة، بعد
أن تعودت العمل في مكتب مكيف أمام جهاز حاسوب لترجمة عقود وفواتير لشركات عالمية،
ومشاهدة مباريات التنس مع على شاشة حاسوبي في أوقات راحة اقتطعها خلال الظهيرة،
تذكرني بأيام شبابي عندما كنت لا افوت مباريات "أندريه أغاسي"
و"مارتينا هينجيز" و"سيرينا ويليامز".
مر عامٌ ونصف على وشاية نرجس وتلفيقها لي تهمة تسريب أسرار الشركة، ثم
تهديدها للمدير، إذا لم يطردني من العمل، أن تشي به هو أيضًا إلى السلطات، ليسحبوا
منه تراخيص الشركة فيعود أدراجه إلى روسيا أو إلى السعودية أو إلى الجحيم.
ولا أدري كيف صدق المدير ادعاءاتها وتهديدها، إلا إذا كانت فعلًا تملك
الدليل على تهربه من دفع الضرائب.
أهدتني أختي ابتسامة مشجعة، ثم أخرجت موزة من حقيبة يدها لتؤكد بأنها ستهدئ
جوعي لحين أن تصحبني لتناول وجبة "أقَاشِيهْ" في سوق
"فَلَّاتة" لن أنساها ما حييت.
سألتُها: ما المناسبة؟ فأجابتْ بأن هذه هي
المفاجأة، ولامتني على نسياني لعيد ميلادها، ثم استدركت لتؤكد بأنها هي نفسها
توقفت عن الاحتفال به حدادًا على روح صديقتها سارة عبد الباقي، المتوفاة بأحد
الرصاصات الطائشة قبل خمس سنوات أيام انتفاضة سبتمبر 2013.
تناولتُ الموزة، وتطلعت في
وجهها بامتنان، دون أن انجح في طرد قلقي من العثور على وظيفة تستجيب لمعاييري،
وتغنيني عن المجيء يوميًا لهذا السوق الشعبي.
وعدت أفكر في المدير، وأتساءل إن كان سيقبل ارجاعي للعمل لو اتصلتُ به. فرغم كرهي له لتصديقه ادعاءات نرجس، كما كرهته كثيرًا في الماضي بسبب
طبعه الغضوب، إلا أن ما يشفع له جزله العطاء في حوافز إجازات العيد وفي الراتب،
الذي لولاه لما تحملتُ دفع نفقات نرجس الفظيعة، وأدوية الضغط والسكر لوالدي وإيجار
البيت الذي يسكنوه، ونفقات أختي التي كرست حياتها للبقاء بجوار والدينا بعد
مغادرتنا أنا وأخي للبيت.
طالبتني أختي بأن أُسمعها إحدى قصائد "محمود درويش؛ فسألتُها
باستنكار: هنا في السوق؟ فأجابت بسؤال: ولم لا؟ ثم عللتْ: "هذا هو الحل
الوحيد لكي تكفر عن ذنبك لنسيان عيد ميلادي".
تفرستُ في ملامحها الباسمة برهة ثم سألتها بمكرٍ إن كانت ستجاريني في
المطارحة الشعرية، فهزت رأسها وأكدت بأنها ما تزال تحفظ جميع قصائد محمود درويش
وأغلب قصائد الشعر العربي الحديث والكلاسيكي، فتحديتُ: "لكن شاعر اليوم شاعر
مكسيكي، يكتب بالإسبانية"؛ فغمزت قبل أن تستفهم:
"أها؟ دي بركات بَاوْلا يا عَوَضْ الكَرِيم؟"
ابتسمتُ بفخر، وحمدتُ على نعمة تلك الأيام الجميلة التي عشتها مع صديقتي المكسيكية
أيام دراستي في موسكو، حتى وإن كانت أمها قد رفضت زواجنا في نهاية المطاف.
واصلنا التسكع بين أزقة السوق بينما أنشدتُ لأختي أبياتًا من قصيدة،
"كنت شجرة وتكلمتُ بستان حروف "للشاعر المكسيكي "أوكتافيو
باث"، قبل أن أعود للخوض في سيرة بَاوْلا؛ لأحكي عن غرامها بقراءة كتب الشعر
بأربع لغات، ثم عن رحلتنا سويًا إلى مدريد وبكائها أمام محطة "أتوتشا"،
حيث قُتل خالها ضمن تفجيرات مارس الإرهابية التي نُفذت في مدريد عام 2004.
ثم توقفتُ عن الكلام لما
توقفتْ أختي عن السير فجأة لتلتفت بحثًا عن صاحبة الصوت التي صاحت باسمها.
بفضولٍ التفتُ معها؛ لتقع عيني على آخر شخص كنت أتوقع رؤيته في مدينة
"الأُبِيِّضْ": أماني-إيناس.
----------
من رواية "سهام
أرتميس"، الصادرة من دار مسعى/ اكتوبر 2023