بقلم/تسنيم طه
-
يا آنسة! يا
آنسة!
التفتُ ناحية الصوت الذي بدا لي مألوفًا؛ فلمحتُ الشاب
الذي نهرته زميلتي قبل قليل، يقف قبالة محل "مُونُوبْخِي- Monoprix"،
بجوار جبل أكوام من النفايات، المتكدسة في باريس منذ أسبوع؛ بسبب اضرابات عمال
النظافة.
- هل تسمحين لي بأن أشرح لك وضعي؟
سأل بنبرة
يغلفها توسلٌ وعشم. طالعتُه بإحراج، قبل أن أخبره بأن هذا وقت استراحتي لتناول
الغداء. ولما لاحظتُ تشنج ملامحه، اقترحتُ عليه العودة إلى المكتب بعد الساعة
الواحدة للحديث مع زميلتي، رغم علمي بأنها لن تغيير رأيها لتنظر في ملفٍ لا يستوفي
شروط التأجير.
- أرجوك اسمعيني أنتِ، لا أريد العودة لرؤية
زميلتك.
لامستني نبرته المؤدبة؛ فشعرتُ بالتضامن معه لمجرد
ابدائه عدم رغبته في رؤية تلك
الزميلة القميئة، التي ما زلتُ أغوص في مستنقع كرهي لها، بعد موقفها الصباحي معي.
فما أن دلفتُ إلى المكتب، بأنفاسٍ متسارعة إثر ركضي من محطة "سَانْ لاَزَاغْ-Saint-Lazare"؛
لألحق وأسجل بصمة دخولي للعمل قبل تجاوز الساعة التاسعة والنصف، حتى نهضت وسارت
نحو النافذة بتبختر، وهي ترمقني بنظرات كره وتحدٍ، تأهبًا لشجار جديد، قبل أن
تفتحها على مصرعيها، رغم الست درجات مئوية في الخارج. نجحتُ
في تجاهلها لعدة دقائق، لحين اكتمال تشغيل حاسوبي ومراجعة جدول زياراتي الخارجية
لهذا اليوم لشقتين: الأولى بالجوار عند شارع "كُوغْسِيل-Courcelles"،
والثانية في الدائرة السابعة عشر، قبالة محطة ميترو "بُوغْتْ مَايُوهْ-Porte-Maillot".
لكن ما أن اقتحم جداري السمعي مزيج ضوضاء السيارات
والدراجات النارية وأعمال الصيانة في البنايات المجاورة، واجتاحت أنفي رائحة أكوام
النفايات ممزوجة بدخان السجائر وعوادم سيارات، ارتفع مؤشر الادرينالين في دمي
غضبًا من افساد خططي بالحفاظ على صحتي وشبابي ونضارتي، التي أداوم عليها تارة
بالصيام المتقطع وتارة بأخذ المكملات الغذائية وتارة بممارسة الرياضة وشرب الماء
الدافئ بالليمون. ومع تنامي مشاعر الغضب في داخلي، فقدتُ القدرة على تمثيل اللامبالاة،
التي أتصنعها أحيانًا لإغاظتها، لحين أن تنهض بمفردها وتغلق النافذة، ما أن تسمع
وقع خطوات وصول المدير. لكن المدير لن يأتي اليوم كما أخبرنا البارحة؛ لأن
زوجته تحتاجه في أن يساعدها في قلب البيت رأسًا على عقب؛ لتنظيفه بالكامل والتخلص
من أثار أي فتات خبز مصنوع من الخميرة، حسب عاداتهم قبل عيد الفصح اليهودي"
البساح ". ووكل عام، يشرح لنا المدير أن الغرض من هذه العادة السنوية تذكر خروج
موسى مع بني اسرائيل من مصر وهروبهم من فرعون خوفًا على حياتهم، بدون أن يتسنى لهم
حمل الخميرة معهم، وأكلهم لفترة طويلة، لخبز مصنوع من الدقيق والماء فقط. وربما
معرفتي أن غياب المدير سيتسبب في طول معاناتي هذا الصباح، هي ما أفقدتني صبري بسرعة،
ودفعتني للنهوض وإغلاق النافذة دون اكتراث لصرخة زميلتي الكريهة، وهي تأمرني أن
أتركها مفتوحة لتهوية المكتب.
حدجتها بطرف عيني، وبذلتُ جهدًا جبارًا؛ لكي ألتزم
الصمت، ليقيني بعدم فائدة إخبارها بعد صلاحية حجتها القديمة بالخوف من فيروس كرونا،
بعد مضي ثلاث سنوات على وباء نسيه الإعلام، والتفت ليصب كامل تركيزه على تغطية
الحرب الروسية-الأوكرانية. لكنها لم تفهم لغة الصمت. فما أن رجعتُ أجلس أمام شاشة
حاسوبي، حتى نهضتُ وأعادت فتح النافذة على مصرعيها وهي تزمجر:
- إذا كنتُ لا تحتملين البرد، عودي إلى بلدك! فرنسا
لا تحتاج المزيد من المهاجرين.
انتظرتُ عودتها لمكانها، ثم نهضتُ وأغلقتُ النافذة،
أثناء تصنعي للهدوء وأنا أرد عليها بنبرة مهتزة بسبب لفحة الهواء التي اجتاحت
دواخلي:
-
أنتِ أيضًا عودي لبلدك! ولا تعتقدي أن حصولك على
الجنسية الفرنسية بالتجنس صنع منك فرنسية حقيقية.
وتجنبًا لاستفزازها أكثر، قمعتُ نفسي على الاسترسال، ومضغتُ
بقية الكلمات داخل رأسي: الفرنسيون مؤدبون ولا يتصرفون بهذه القماءة وقلة الذوق.
في هذه اللحظة، دخل أُولِيفْيِيهْ، زميلنا الفرنسي الذي
يشاركنا المكتب، خائر القوى وكأنه قضى الليل بطوله مستيقظا. ألقى علينا تحية واهنة
ثم تقدم ناحية مكتبه متوسلًا إيانا أن نكف عن تكرار هذا المشهد الذي سئم منه. من
أجله؛ وهو صديقي الوحيد في هذا المكان، قمعتُ رغبتي في مواصلة لعبة التحدي مع
زميلتي، التي نهضت وأعادت فتح النافذة. ولما صعب عليَّ التركيز، أخذتُ ورقة وبدأت
أشخبط بعصبية لتفريغ غضبي وشعوري بالقهر ورغبتي في قتل هذه المرأة التي أمامي. شخبطتُ
وشخبطتُ، وشخبطت. تارة ندبتُ حظي وسألتُ الله ما الإثم الذي فعلته لكي يعاقبني هذا
العقاب، وتارة تحسرتُ عدم وقوع مكتبنا في أحد الشوارع التي تحولت بالكامل لطرق
مشاة بعد إلغاء طريق السيارات، ضمن مشروع بلدية باريس الإيكولوجي للتقليل من
التلوث والضوضاء، وجعل المدينة صديقة للبيئة وللإنسان. ثم توقفتُ عن
الشخبطة عندما لفحتني شدة برودة الهواء المنصب أكثر على جهتي، لفحة جعلت بدني يقشعر
والقلم يرتجف القلم بين أصابعي. ومن الغيظ والاحساس بالغبن وقلة الحيلة، أوشكتُ أن
استسلم لرغبتي الانخراط البكاء، حنقًا ويأسًا من ضعفي وعجزي عن التركيز في عملي،
الذي سيعتبره المدير تقصيرًا.
ألقيتُ نظرة
ناحية زميلي وحسدته على تركيزه، دون أن أدري أهو انغماس في العمل أم سهو في مشكلة
عائلية. وتلهفتُ لاستراحة الغداء؛ لكي أرافقه إلى الحديقة وأفضض معه وأبوح له بعدم
قدرتي على التحمل وانتظار ثلاث سنوات أخرى لحين تقاعد هذه الزميلة ؛ حتى أرتاح من
شرها. لكن للأسف، لن أحظى بتلك الفضفضة، لأن أُولِيفْيِيهْ سيتلقى اتصالًا
من زوجته، وسيلحق بها في طوارئ مستشفى "لاغي بوازييغ-Lariboisière"،
لإسعاف طفلهما الرضيع، بعد تفاقم أزمة ربو البارحة، التي جعلتهم يقضون ليلة بيضاء.
بعد خروجه، تكاسلتُ عن إعادة لعبة التحدي مع زميلتي،
وواصلتُ قتل الوقت في رسم الدوائر العشوائية وتكرار النهوض كل برهة للاختفاء عدة دقائق
داخل دورة المياه نشدًا للدفء وللهدوء. ومع اقتراب موعد الغداء، واكتشاف
أنني أهدرتُ أكثر من ساعتين في لوك المشاعر والأفكار السلبية، أخذتُ ورقة أخرى
وقررت كتابة ألمي بالكلمات؛ علني أتخلص منه فأنساه. لكن، وبدل إفراغ غضبي من
زميلتي وانزعاجي من البرد والضوضاء، دُهشتُ من قلمي يكتب عبارة "غبار
النجوم"، التي لما تأملتها تفاجأتُ باسترخائي أثناء تخيلي أن بإمكان النجوم
أن تنثر علينا غبارًا يمكنه إصلاح ما يفسده تلوث المدن وضوضاؤها. أغمضتُ عيني ورجوت
النجوم أن ترسل لي نجدة تمسح عني جميع أضرار التلوث والذرات والشوارد الحرة؛ حتى
أحافظ على صحتي ونضارة بشرتي. ثم تساءلتُ: هل سكان الكواكب الأخرى يشيخون مثلنا
بسبب التلوث والأكل الضار، إن كان هناك سكان آخرين في مناطق أخرى غير كوكب الأرض؟
ثم تذكرتُ فريدة، جارتي الجزائرية القبائلية، التي قالت لي ذات مرة، أن في القرآن،
كتابهم المقدس، آية تقول إن "الله رب العالمين"، أي رب البشر والشجر
والدواب والجماد وسكان الكواكب الأخرى الذين لا نعرفهم حتى الآن. فتساءلتُ: هل
سكان الكواكب الأخرى مثلنا نحن البشر؟ يحلمون بالعثور على الحب وعلى توأم الروح؟
وهل هذا البحث الدائم يضنيهم ويفقدهم طعم الأشياء؟
يا إلهي! متى سأعثر على توأم روحي؟ وألتقي
بشخص يشبهني عقليًا وروحياً؟ شخصٌ يقاسمني حلم العيش في الريف بعيدًا عن تلوث
وضوضاء المدن؟ شخصٌ أتواصل مع روحه قبل جسده؛ لأنجب منه أطفالًا جميلين، أصنع
لهم قوالب حلوى التوت البري والتفاح والفراولة انتاج حديقة بيتنا، التي سأزرع فيها
أيضًا جميع الخضروات التي نحتاجها لنحافظ على صحتنا ونضارتنا وشبابنا. حديقة،
سنربي فيها دجاجات يضعن بيضًا صحيًا في الهواء الطلق، ومعزة ستعطينا كل يوم حليبًا
طازجًا، وأرانب ستزيد من فرحة الأطفال بالركض ورائها، اثناء ملاحقتي لهم، لأجبرهم
على الدخول لتناول الطعام مع والدهم العائد من العمل. ولكن أين أنت يا
والدهم؟ متى ستظهر في حياتي؟ أم أن عليَّ العمل بنصيحة أُولِيفْيِيهْ،
والتسجيل في مواقع التعارف بين العازبين؛ علني أجد شخصًا أنجذب إليه؟ لكنني
لستُ متحمسة لهذه الفكرة، ولا أدري أهو الكسل؟ أم الخوف من المجهول؟ أم إيمان في
داخلي بأن توأم روحي سيأتي إليَّ بنفسه؟
رفعتُ رأسي عن الورقة، لأتبين وجه الشخص الذي دفع
الباب ودخل بترد. فوقعت عيني على شاب أسمر مربوع القامة. تابعته يمسح المكان بنظرة
سريعة، قبل أن يوجه كلامه إليَّ ليستعلِم، بفرنسية ركيكة، عن شقة معروضة للإيجار،
في شارع "مُونْسُوهْ" بالجوار. وقبل أن أجيبه، تلقفت زميلتي الحديث،
كعادتها في تلقف الزبائن. رمقتها بنظرة غيظ وكره مضاعف؛ لحرمانها لي من فرصة تبادل
حوار مع زبون كانت ستنسيني آثار هورمونات غضبي منها.
انشغلتُ برهة بتأمل عضلات ذراعي الشاب البارزة من تحت معطفه الضيق، ثم رجعتُ لمواصلة الكتابة.
لكن الفضول دفعني لرفع عيني مجددًا وتركيزهما ناحية الشاب لمعرفة ما كان يقوله
لزميلتي، التي حولت الحوار إلى العربية، لما لاحظت معاناته في تكوين جمل صحيحة
بالفرنسية. لكنني لم أفهم شيء سوى الجملة الأخيرة التي نطقتها بالفرنسية عندما نفذ
صبرها:
- ما دام أنك لا تملك أوراق اثبات راتب،
لماذا تأتي للبحث عن سكن في وكالات العقارات؟ اذهب وابحث في موقع
"لُوبُونْكُوَا- Le bon coin" أو أي مكان آخر. هذه هي شروط
وكالتنا، أليس كذلك يا إيزابيلا؟
كم كرهتُ اسمي في فمها، وكرهتُ أكثر إقحامها لي في
حوار لم أفهم منه الكثير
***
-
أرجوك يا
آنسة، اسمعيني أنتِ! فزميلتك لم تكن متفهمة معي قبل قليل، كرر الشاب توسله.
تفرستُ في ملامحه بعدم تركيز، بسبب انزعاجي من رائحة القمامة ورائنا، ثم رضختُ
وطلبتُ منه أن ينتظرني لحين شرائي لغدائي قبل ازدحام المحل.
-
بل سآتي معك
إذا لم تمانعي، قال بأدب مبالغ فيه؛ جعلني أهز رأسي موافقة.
بعد دخولنا محل "مُونُوبْخِي- Monoprix" الذي كان قد
ازدحم بالموظفين الخارجين لشراء غداءهم مثلي، توجهتُ مباشرة لقسم الوجبات الجاهرة
لأخذ طبق سلطتي المفضل، أثناء سؤالي له إن كان سيأخذ شيئًا للغداء؛ لينفي ويعلل
أنه يصوم رمضان.
-
كيف لفتاة
جميلة مثلك أن تتقاسم المكتب مع سيدة فظيعة مثل زميلتك؟
باغتني سؤاله، وأصابتني كلمة "جميلة" بارتباك عقد لساني عن الإجابة،
لأحكي له كم أكره هذه المرأة.
- سمعتُها
تناديك "إيزابيلا"، هل انتِ اسبانية؟ لو كنتِ كذلك، أتمنى ألا تكوني مثل
شخصية ايزابيلا القشتالية، التي أقرأ عنها الآن في هذه الرواية.
أخبرته بأنني قرأت بالإسبانية قصة لـ"ميغيل دي ثيربانتِس"، بعنوان
" ندوة الكلاب –El Coloquio de los Perros "، حكى فيها
عن اللعنة التي لحقت بالشعب الإسباني جراء طرد الموريسكيين من إسبانيا.
لم أقرأ لـ" ثيربانتِس" سوى روايته الشهيرة "دون كيشوت"
مترجمة إلى العربية، علق الشاب قبل أن يضيف أضاف بأنني محظوظة لقدرتي القراءة
بالإسبانية، وبأنه قريبًا سيقرأ بها هي واللغة الفرنسية، ما أن يكمل تعلمهما ويصل
بهما لمرحلة اللغة الانجليزية، التي درس آدابها في جامعة الخرطوم. ثم ابتسم وهو
يقول بأنه يشعر بنفسه كطائر بلبل عالمي؛ خُلق ليغرد بلغات أجنبية كثيرة.
أعجبني حسه الفكاهي؛ فابتسمتُ له بصفاء، فكرر سؤاله عما إذا كنتُ إسبانية،
فأجبته أثناء تجاوزنا لصفوف الفواكه والخضروات وتوجهنا لصف قوارير المياه
المعدنية، بأن لدي دماء اسبانية. ثم شرحتُ له أن أجدادي الأوائل هاجروا من اسبانية
بعد سقوط غرناطة عام 1492، رغم أنهم لم يكونوا مسلمين ولا يهود، لكنهم خافوا من أن
تتهم محاكم التفتيش ديانتهم البروتستانتية بهرطقة يستحون عليها المحرقة، أو تقتيل
في مجزرة كـ"مذبحة سان بارتيليمي" التي ستخلف الألوف من الأموات من
الكاثوليك والبروتستانت، في فرنسا عام 1572.
- لكنني أعتبر
نفسي برتغالية مائة بالمئة، لأنني ولدتُ وعشتُ طوال عمري في لشبونة، قبل أن آتي
إلى فرنسا، قبل ست سنوات، لدراسة الماجستير، أضفتُ بفخر.
رمقني بنظرة اعجاب أربكتني، ثم علَّق بأنه يحب البرتغال، بلد "ثورة
القرنفل"، وبلد "كريستيانو رونالدو" لاعبه المفضل، و"جوزيه
ساراماغو" مؤلف رواية "العمى"، و"أماديو دي برادو"،
الطبيب العبقري والشاعر المنخرط في المقاومة ضد دكتاتورية نظام
"سالازار"، الذي كتب عنه الفيلسوف السويسري" "باسكال
مرسييه" في روايته "قطار الليل إلى لشبونة".
هل قرأتِها؟ سألني، فهززتُ رأسي بالنفي، أثناء تناولي لقارورة ماء "
Contrex" وشعرتُ بالإحراج من جهلي لكل ما ذكره في جملته، بخلاف
كرستيانو رونالدو والدكتاتور "سالازار".
- من أي بلد
أنت؟
- من السودان،
أجاب بسرعة.
- أين هذا؟
سالتُ بعفوية ندمتُ عليها عندما ملاحظة جحوظ عينيه؛ ليتضاعف ارتباكي مع ازدياد
وسامة ملامحه أثناء إطالته التفرس في وجهي بذهول، وتخيله يسخر مني في داخله:
الفتاة الجميلة ذات الشعر الأسود المموج والعيون الكستنائية، المتأنقة في بدلة
رسمية وحذاء بكعب عالٍ، لا تعرف أين موقع السودان الجغرافي من العالم؟
تفاقم شعوري بالعار، هونته على نفسي بمواساتها: وما ذنبك لو لم تكن جغرافيا
الوطن العربي ضمن برنامج تعليمك المدرسي؟
-
السودان بلد عربي يقع في إفريقيا جنوب مصر، وشرق تشاد،
وغرب البحر الأحمر والسعودية. أجاب بهدوء، ثم سأل بنبرة مشككة: هل تعرفين هذه
البلدان؟
-
أجل أعرف مصر لأن فيها الأهرامات، وأعرف السعودية لأن
معظم زبائننا من عرب الخليج، الذين يأتون للبحث عن شقق مفروشة في الصيف يكونون
منها.
أصابني غمٌ عند تذكر كيف ترتدي زميلتي القميئة قناع اللباقة المفرطة، بمجرد
دخول زبون عربي تحس أنه غني؛ لتنتزعه مني متباهية بإجادتها اللغة العربية؛ لتكسب
نقطة إضافية عند المدير، لجلبها للوكالة زبائن يدفعون بسخاء ويجزلون العطاء على
بقية الخدمات التي تقدمها لهم لمساعدتهم في فهم أشياء يجهلونها عن باريس بسبب
جهلهم للغة الفرنسية.
بسببها، كدتُ أكره جميع الجزائريين، لولا انتشالي من فخ الكراهية على يدي فريدة
جارتي القبائلية، التي جعلتني أحب الأكل الجزائري (الشوربة والبوريك بالدجاج
وكسكسي لحم الخروف وحلوى قرن الغزال)، الذي حافظت على تقديمه لي طوال عامين، وهي
تطرق عليّ الباب كل مساء فور عودتي من العمل حتى في شهر رمضان. ولما أخبرتها مرة
بأنني مسيحية، وأنه لا داعي لكي تقتطع من طعام رمضان لإعطائي لأنني لا أصوم؛
أجابتني وابتسامتها الآسرة تضئ وجهها الحنون: كليه في أي وقت؛ فأنا أقدمه لكِ
لأنكِ جارتي حتى وإن لم تكوني مسلمة. لأن نبينا أوصانا بالجار، أيا كانت ديانته.
ومنذ تلك اللحظة، أصبحتُ أحب نبي الإسلام.
تنهدتُ بعصبية، عند محاولة استحضار بقية بلدان الوطن العربي، واكتشاف أن كل ما
أعرفه عن هذه البقعة الجغرافية الشاسعة الناطقة باللغة العربية، التي يشبهونها
بدول أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية، هي بلدان المغرب العربي الثلاثة،
لمصادفتي إياهم كثيرًا منذ وصولي إلى فرنسا عام 2016، ولسهولة التواصل معهم؛
لإجادتهم اللغة الفرنسية.
-
وهل الخليجيين لديهم ضمانات شهادات راتب لتأجير الشقق؟
فاجأني الشاب بسؤال لم أستطع الإجابة عليه؛ لجهلي كيف تتعامل معهم زميلتي.
ولما طال صمتي، افترض بأنهم يعطون ضمانات مالية، هو نفسه يمكن أن يقدمها، مؤكدًا
أن رب عمله سيكون الضامن له.
-
إذن أنت تعمل، لماذا ليس لديك اثبات شهادة راتب؟
اغتمت ملامحه، فشعرتُ بالإحراج من سؤالي. لكن صوته كان هادئًا أثناء حكايته
لقصته المؤلمة منذ تركه للسودان، وعن أهوال المجازفة بركوب البحر بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021،
وعن جشع المهربين في ليبيا وأهوال البحر قبل الوصول بأعجوبة إلى الشواطئ
الإيطالية، وعن تقرح قدميه من فرط السير الطويل في طرق السكك الحديدة ليلًا هربًا
من بوليس الحدود بين ايطاليا وفرنسا، وعن اكتئابه بعد سكنه مع شباب مهاجرين، بدل
أن يساعدوه أنزلوه للحضيض، بإيهامه أن الحل في نشد النسيان بين أحضان المومسات
الرخيصات في أحياء "بِيلْفِيلBelleville " و"سْتَراسْبورْغ-سَانْدُوني"،
وفي الإفراط في تناول الكحول.
كان حوارنا باللغة الإنجليزية، التي في مواقف أخرى كنتُ سأشعر بالأمان للتحدث
بها عن مواضيع الهجرة غير الشرعية، أمام فرنسيين لا يتقنون سوى لغة اجدادهم. لكن
عند ملاحظة كمية وجوه الأمريكان والإنجليز والألمان، التي بدت لي متنبهة لما حكاه
لي الشاب، انتابني احراج وضيق، لم يتبددا إلا لحظة خروجنا من المحل.
كنتُ سأقف معه قليلًا، لأسمع بقية قصته قبل انصرافي لتناول الغداء في الحديقة،
لولا ملاحظتي لزميلتي القميئة تقف مع موظف أمن السفارة الجزائرية في الجهة
المقابلة. استأذنتُ الشاب في أن أسبقه في المشي، حتى لا تلاحظ زميلتي وقوفي معه؛
فتنسج قصة تبالغ في حبكها يوم الاثنين إلى المدير. فجاوبني بابتسامة صافية وتوقف
مكانه لحظات، قبل أن أحس به يتبعني. وكنت سعيدة من سيره ورائي، رغم ارتباكي عند
تخيله ينظر لمؤخرتي المرسومة داخلي بنطالي الأسود الضيق، المتمايلة لابد بفعل
تأرجي بحذائي ذو الكعب العالي.
عند التوقف أمام إشارة المرور الحمراء عند ساحة "ريو دي جانيرو"،
كان قد لحق بي ووقف بجواري، فهبتني رائحة عطره القرنفلي، وخففت عني انزعاجي من
دخان سجائر المدخنين بجواري. لكن عندما مرت سيارة أطلق عادمها دخانًا أسود كثيفًا،
ضاعفت من انزعاجي، وأجبرتني على رف الإيشارب وتغطية أنفي وأسفل وجهي، تضامن معي
بتعليقه أن السائق لن يتأخر في حصد مخالفة مرورية لقيادته آلة بهذه المواصفات
المضرة بالبيئة والبشر. فعملتُ بأنه يقاسمني أفكار الخوف من التلوث.
حدثته، أثناء انتظارنا لتحول إشارة المشاة للون الأخضر، عن مشروع باريس لمنع
سيارات الديزل العام القادم 2024، مشروع متوقع
اكتماله بمنع جميع السيارات غير الكهربائية، بحلول عام 2030.
ثم أسهبت في الثرثرة عن مبادرة "أنسنة المدن Human
Cities- " التي ظهرت في العالم بعد تفاقم فوضى التلوث البيئي
والضوضاء والاختناقات المرورية والتوتر والقلق في المدن، نتيجة للثورة الصناعية في
نهاية التسعينات وبداية الألفية الثانية.
ولما قرأتُ الاهتمام على وجهه، واصلتُ ثرثرتي وعددتُ له أسماء أحياء باريس، التي
تحولت بأكملها لأحياء "إيكولوجية" صديقة للبيئة، قُلصت أو أُلغيت منها
الشوارع المخصصة للسيارات، واستبدلتْ بممرات مزينة بالأشجار والورود؛ لحث الناس
على المشي وركوب الدراجة بدل السيارة؛ تفاديًا لاستهلاك الوقود وإطلاق غاز ثاني
أوكسيد الكربون المؤثر سلبًا على البيئة والاقتصاد وصحة الانسان.
وما أن انتهيتُ أخباره بمشروع بلدية باريس لأنسنة كامل المدينة، بزيادة عدد
الملاعب والحدائق وأماكن لعب الأطفال وغيرها المساحات الخضراء، وتوفير أماكن مخصصة
لفرز وتدوير النفايات، حتى انتابني ضيق شديد وانقباض؛ لما وقعت عيني على جبال
أكوام النفايات.
لذتُ بصمتٍ مرتبك، وتذكرتُ معاناة تحمل الرائحة الكريهة المختلطة بدخان
السجائر وضوضاء محركات السيارات والبرد، التي عشتها هذا الصباح بسبب زميلتي
القميئة.
انتهز الشاب صمتي؛ ليضيف على كلامي بأن في العالم العربي أيضًا دول اتجهت نحو
الاستفادة من التجربة الغربية لأنسنة المدن، مثل السعودية والإمارات ومصر والأردن،
رغم وجود صعوبات كثيرة تقف أمام مدن الوطن العربي وتعوقها للحاق بالركب، منها
عقبات اقتصادية وثقافية واجتماعية وسلوكية تساهم في نشر التلوث، كرمي المخلفات في
الشوارع، وحرق النفايات في الأحياء، والاستخفاف بفكرة فرز النفايات لتسهيل تدويرها،
وعدم الاهتمام بترشيد الكهرباء والمياه من أجل الحفاظ على الطاقة.
ولما لم أعلق على كلامه، أضاف بأن أن أكبر عقبة لا تشجع المواطن العربي على
الاستغناء عن السيارة، هي البيئة القاسية؛ لأن شدة حرارة الجو، وسوء مواسم الأمطار
السنوية التي تصيب الطرق بالخراب، لعدم مراعاة التخطيط الصحيح للبنية التحتية
للمدن منذ البداية، تُجبر المواطن على صم أذنيه من جميع الشعارات والمبادرات صديقة
البيئة، التي تمثل له ألد الأعداء، وتجعله لا يكترث لو نشرت سيارته التلوث من
عادمها، والضوضاء من بوقها لتخرب الانسجام البيئي. لأن كل ما يهمه هو مواصلة
كفاحه؛ للوصول لعمله في الوقت المناسب.
بعد تجاوزنا ساحة "ريو دي جانيرو"، سرنا خطوات قبل أن نمر من أمام
مبنى شركة "Rolex" للساعات
السويسرية. وهنا توقف رفيقي، ليتأمل الشعار الأخضر بإعجاب، قبل أن يفاجئني بإطلاق
صرخة حماس، عند رفعه لرأسه وقراءته لاسم الشارع على اليافطة الزرقاء: "Rue
Murillo".
بفضول تابعته
يعبر عن أعجابه بالفنان التشكيلي الإسباني "استبان مُورِيُّو"، وبلوحات
وخاصة "الشاب الشحاذ" و"آكلي البطيخ والعنب"، وبمدينته
"إشبيلية"، التي صادف منشورًا عنها في فيس بوك، يصور ثمار البرتقال المتساقطة
في شوارعها في شهر سبتمبر، المتزامن مع تساقط ثمار الكستناء في شوارع باريس.
وتحول فضولي إلى شعور بالإحراج، أثناء هزي لرأسي بالنفي إجابة على سؤاله إن
كنتُ أعرفه. لحسن الحظ زال احراجي سريعًا وتحول لحماس نشر في جسدي قشعريرة أثناء
اخباره لي عن هوايته في الرسم بقلم الرصاص وتقليد لوحات الفنان الإسباني وغيرها من
اللوحات، إضافة لتقليد أغلفة الكتب التي يقرأها، وآخرها غلاف رواية "The
secret scitpture"، للإيرلندي " سيباستيان باري ".
ولما أخبرته بأنني أيضًا أقلد أغلفة الكتب، التمعت عيناه واتسعت ابتسامته، قبل
أن يقول بأنه سعيد أن التقى بإنسانة لطيفة مثلي تشاركه أحد هوايته. فخفضتُ بصري
ارتباكًا، لما انتابني خدر في أطرافي جراء تغزله الصريح.
ولما تضاعفت
سعادتي عند سؤاله لي عن آخر غلاف قلدته، ظننتُ بأنني سأضيف له معلومة جديدة عندما
أجيبه بــ" رواية السيدة دالاوي"، للكاتبة فرجينيا وولف. لكنه خيب ظني
بإجابته الواثقة على سؤالي المشكك إن كان يعرفها:
-
طبعًا
أعرفها. ومن لا يعرف مؤلفة "غرفة تخص المرء وحده"؟ الإنجليزية، التي
ملأت جيوبها بالحجارة قبل دخول النهر؛ لتنهي حياتها.
وعاد شعور الإحراج يلفني، أمام اتساع ثقافته في تاريخ وفن وأدب أوروبا، في حين
أنني لم أسمع باسم بلده العربي الإفريقي من قبل.
بعد تركنا لشارع مُورِيُّو، ودخلنا حديقة " مُونْسُوهْMonceau-
"، زاحمنا بشرًا عند المدخل، خارجين أو داخلين
في هذه الساعة التي يهرع فيها الموظفين لتناول غداءهم في حضن الطبيعة، وسط هذه
الروضة البديعة: رئة الدائرة الثامنة لباريس.
سرتُ بجواره بسعادة، أتابع بعيني تعليقاته وانبهاره بالمكان المكتظ بالبشر:
أناسٌ يمارسون رياضة الجري، وآخرون جالسين يقضمون سندويتشاتهم، كلابٌ يتوقف
أصحابها ويتبادلون أحداث سطحية للسماح لحيواناتهم بأن تلاعب بعضها وسط المرج،
المحاط بشجيرات تفتحت براعم ازهارها زاهية الألوان، محدثةً عن بداية موسم الربيع.
أخبرني بأنه يمارس رياضة الجري في حديقة "بُوتْ شُومُوButtes
Chaumont-" في الدائرة التاسعة عشر كل يوم أحد. فقلت: أنا أيضًا
أركض يوم الأحد بعد العودة من الكنيسة فور انتهاء القُدّاس، من بيتي في
"بُوغْتْ دُو شْوَازي-Porte de Choisy" في الدائرة
الثالثة عشر، لغاية حديقة "Kellermann" بالجوار، حيث
أواصل الركض قبل ممارسة تمارين صقل عضلات كامل الجسم، بالآلات المتوفرة مجانيًا
داخل الحديقة.
توقفتُ عن
الكلام عندما تجاوزتنا فتاة نحيفة، نفثت دخان سيجارتها الكثيف في وجهي فدخل رئتي
وأصابني بحرقة، جعلتني ألعنها وأتذمر ثم أنتقد عدم منع التدخين في الحدائق العامة،
لإيذائه ليس البشر الآتين نشدًا للسلام وسط الطبيعة وحسب، وإنما أيضًا الأشجار.
وافقني بقول: أجل الأشجار مقدسة، ويجب حمايتها؛ فبدونها نحن في خطر هجمات ثاني
أكسيد الكربون، المتسببة مسبقًا لهذا الكوكب، في كثير من الأضرار، أولها الاحتباس
الحرارة.
أضفتُ بأن
خطوة منع التدخين في الحدائق، لن تتأخر، ما دام أن فرنسا قد منعت الطيران الداخلي،
للحد من التلوث واستهلاك الطاقة.
كدتُ اصطدم بكلب صغير بني يركض وراء آخر كانيش أبيض، بسبب متابعتي بغيظٍ،
للفتاة النحيفة المسرعة نحو البوابة الرئيسية، فتوقفتُ عن الثرثرة، وواصلتُ السير
بجواره بصمت مترنحة في كعبي العالي، إلى أن وصلنا لمقعد شاغر شمال بحيرة البط، حيث
جلسنا متجاورين بانسجام أصدقاء أو زملاء يعملون سويًا منذ سنوات، وليسوا مجرد
شخصين تعرفا على بعضهما قبل عدة دقائق.
هبتني رائحة عطره القرنفلي؛ فانتابني شعور بالارتباك نتيجة خجلي من رغبتي في
وضع رأسي على كتفه. واستعجبتُ من شعور الانسجام المتمدد في داخلي تجاه هذا الغريب
الذي لا أعرف اسمه. ثم تساءلتُ: هل الأسماء مهمة لكي نعرف مدى ارتياحنا لشخص ما؟
أم أن الأرواح التي لا أسماء لها، بارعة في التعرف على خِلانها؟
ولتبديد
ارتباكي وخجلي من أحلامي الشاطحة، أزحتُ الغطاء البلاستيكي عن طبق السلطة وأفرغت
محتويات أنبوبة الخل والزيت على الأفوكادو والطماطم والخس والبصل الأحمر وبذور
الرمان والكتان، قبل أن أحركها بالشوكة والسكين المصنوعتين من الخشب.
أمعن النظر في محتويات طعامي، وسألني إن كنتُ نباتية، فنفيتُ ثم عللتُ بأنني
فقط أمارس الصوم الكبير، الذي سينتهي بعد عشرة أيام مع عيد الفصح. ثم أضفتُ بأنني
خارج فترة الصوم المسيحي، الذي يمنع أكل ما فيه روح، أعتمد في غذائي على البروتين
الحيواني مثل الزبادي والجبن والبيض وسمك السلمون؛ إضافة للأفوكادو؛ حتى أطيل فترة
احساسي بالشبع وألتزم بالصيام المتقطع. فقال بأنه أيضًا يمارس الصوم المتقطع لمدة
16 ساعة في اليوم؛ ليحافظ على صحته، وبأنه يحب الأفوكادو كثيرًا؛ لأنه طعام ممتاز
مشبع ومفيد للصحة.
أخبرته بمعلومة قرأتها تقول إن زراعة الأفوكادو تستهلك كثيرًا من المياه، ثم
أبديتُ قلقي من أن توقف فرنسا زراعته، إن كانت تزرعه، أو استيراده بحجة توفير
المياه والطاقة. ثم أطلقتُ ضحكة ساخرة: قتلونا بموضوع توفير الطاقة. العالم أصبح
هلعًا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
أربكتني
ابتسامته ونظرته الثاقبة من تحت حاجبيه المقرونين، فرجعتُ لموضوعنا وسألته عن
الضمانات التي سيقدمها لكي أساعده في الحصول على السكن.
وقبل أن أسمع رده، لمحتُ زميلتي تتمشى على الضفة المقابلة، وتتحدث في هاتفها
النقال عبر سماعات الأذن. اقشعر بدني أثناء تخيلي لها تمر من أمامي؛ لتحدجني بنظرة
كره من عينيها الصقريتين، قبل أن تطلق فحيحها القميء: إيزابيلا! ما الذي تفعلينه
من الزبون في الحديقة؟ فأجيبها بعد أن أمد لها لساني: هذا ليس من شأنك أيتها
الشمطاء الحقودة.
ولما تخيلتها تصفعني، أصدرتُ "آهـ!"، متوترة، فالتفتْ يسألني عن
الأمر، فأخبرته بقلقي، وكيف أن عملي مع هذه المرآة يستنزف مني كثيرًا من الطاقة.
فأجاب ببساطة: تجاهليها! قبل يخبرني عن زميله السلبي ، الناطق لكل ما يأتي
بتفكيره، مصدرًا ضجة كصفيحة فارغة تصدر ضجيجًا، لتشوش عليه تفكيره، وكيف أنه
يتجاهل انزعاجه منه، بوضع سدادات الأذن تارة، وتارة أخرى بوضع سماعات الهاتف؛
ليوهمه بعدم سماع تراهاته، فيجبره على الصمت، وأن أصر الزميل على مواصلة ثرثرته
السطحية، يتجاهله ويواسي نفسه بأن الإنسان في هذه الحياة معرض للإصابة بالكدر.
ثم ذكر لي مقولة لشخص يُدعى ابن عطاء السكندري": لا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ
الأَكْدَارِ، مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارَ "، أرفقها بآية قرآنية من سورة
تُدعى العنكبوت: " أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ؟"، قال إنهما تعزيانه عندما يتفاقم شعوره بالضيق.
في أي مجال تعمل؟ سألتُ وأنا أتوقع وظيفة مكتبية تتطلب التركيز؛ ليفاجئني
بإجابته الهادئة: في غسل الصحون؛ لتزول صدمتي سريعًا عند تذكر أنه أخبرني بكونه
مهاجر حديث، يعمل في السوق السوداء، ولا يملك أوراقًا تسمح له بالحصول على شهادة
راتب.
رمى طفل أمامنا ورقة البسكويت على الأرض، فانحنت أمه ومدتها له موجهة إياه
ليرميها في سلة القمامة. تابعتها تسير بجواره بصبر كبير إلى أن أوصلته لجبل آخر من
جبال الأكياس السوداء. تابع الشاب مكان نظرة عيني، واستنكر: حتى في الحديقة توجد
أكوام نفايات؟ ما الذي يحدث لمدينة الأنوار؟
كل هذه الفوضى بسبب تذمر أشخاص يتظاهرون ويضربون عن العمل احتجاجًا على زيادة
سن المعاش؛ فيضيعون الحاضر من أجل مستقبل قد لا يصلونه، علقتُ بألم. ثم لذتُ ببرهة
صمت مرتبك، لما لاحظتُ نظرته المعجبة بعد نطقي لجملتي الأخيرة، قبل أن أواصل
لأخبره عن اضرابات المواصلات في ديسمبر 2019، وعن احتجاجات ذوي السترات الصفراء،
التي خربوا فيها محلات تجارية في شارع الشانزليزيه.
ولما سألته إن كان يذكر تلك الفترة، أجاب بأنه لم يكن قد وصل بعد الى فرنسا،
وبأنه كان ما يزال مملوء بالأمل مثل بقية الشعب السوداني، في أن ينجح رئيس الوزراء
تحسين حال السودان بعد الثورة، السودان الذي ما يزال جرحه غائرًا داخل روحه
المكلومة على وطن أبي حاله أن ينصلح.
تألمتُ لحزنه، ثم واصلتُ كلامي عن معناتنا مع تلك الفترة العصيبة مع أزمة المواصلات، التي تحولت فيها باريس من مدينة فن وثقافة، لمدينة ضجر ولعنات وسباب ومفاجآة، تركت بصمتها في ذاكرتي، وخاصة مشهد وضع سيدة لطفلها في القطار، بعد توقفه لمدة ساعة بين محطتين بسبب الازدحام.
صمتُ برهة لأخذ لقمة أخرى من غدائي، فعلق الشاب بأنه يفهم شعور الفرح بشهود
ولادة طفل على متن قطار؛ فقد أخبره جد خطيبته الحلفاوية، بسعادته حضور ولادة طفل
في قطار "التهجير"، الذي نقلهم إلى منطقة "خَشْم القِرْبة" من
مدينتم "وادي حَلْفَا"، قبل اغراقها بمياه بحيرة "النوبة"،
بعد توقيع اتفاقية السد العالي بين الرئيسين المصري "جمال عبد الناصر"
والسوداني "ابراهيم عبود"، في بدايات الستينات.
كادت العبرة تخنقني وأنا أسأله:
-
هل لديك
خطيبة؟
-
كان لديّ، لكنها فضلت الزواج برجل أعمال تركي مقيم في
الخرطوم وجدتُ أنه سيؤمن لها مستقبلًا أفضل مني.
تنفستُ الصعداء، وشعرت بعودة جريان الدم في عروقي.
رفعُت رأسي، لما انعشتني هبة ريح قوية زادت من قوة حفيف أغصان الأشجار الوارفة
بجوارنا؛ لأتأمل بإعجاب توازن الطبيعة، وهي تتكفل بنقل بذور الطلع إيذانا بموسم
الربيع.
أبديتُ دهشتي
من قوة الريح في هذا اليوم من نهاية شهر مارس، خلافاً للسنوات الماضية، فأجاب بأنه
لم يعتد بعد على مناخ فرنسا ليعرف مواسم الرياح؛ لأنه لم يصل سوى قبل عام وبضع
أشهر. ثم أضاف ليدعم كلامي، بأن جدته القبطية، كانت تردد: "أَمْشير يشيل
العجوزة ويطير". ثم شرح أن "أَمْشير"، أحد شهور التقويم المصري
القديم المقابل لشهر فبراير.
-
جدتك قبطية؟ يعني أنت مصري؟
هز رأسه بالنفي وصحح:
-
جدتي قبطية سودانية ولدت وعاشت طوال عمرها في سِنَّار
بالسودان. وأنا كذلك سوادني من السودان، الواقع جنوب مصر.
شعرتُ بالإحراج وأحسستُ بأن في تأكيده لسودانية جدته تلميح يقول لي: هي مثلك
أنتِ التي لا تعترفين بكونك إسبانية إلا بالدماء، وتعتبرين نفسك برتغالية مائة
بالمئة؛ لأنكِ ولدتِ وعشتِ طوال عمرك في البرتغال.
هربتُ من شعور الاحراج، بسؤاله عن سِنَّار. فأجاب بأنها أحد مدن السودان المهمة،
كانت عاصمة دولة "الفُونج" في الماضي، وأن الأتراك لما غزوا السودان في
بداية القرن السابع عشر، كان هدفهم الوصول إليها، ومنها إلى أعالي النيل للحصول
على الرقيق والذهب (المال والرجال)، أحد أسباب حملة محمد علي باشا. لكن المك
"نِمِر"، ملِك الجَعَليين، فشَّل خططهم، بإعداده محرقة في شَنْدِي، لابن
الباشا اسماعيل، انتقامًا منه على إهانته له التهديد بالخازوق.
واصلتُ المضغ ببطء أثناء تأملي لطفل يقذف بفتات خبز للبطات في البحيرة،
واستشعرتُ استرخاءً وسعادة؛ لجلوسي بجوار هذا الغريب، ثم استغرابًا من اتساع شعوري
بالألفة تجاهه.
ولما أحسستُ بنظراته المتأملة تحرق صفحة وجهي، رجعتُ لموضعنا بسؤاله عن سبب
تمسكه برغبة السكن في الدائرة الثامنة، أحد دوائر باريس الغالية.
فطفق يحكي عن عدم ارتياحه تقاسمه السكن مع خمسة أشخاص شقة صغيرة مساحتها 35
ميتر مربع في شارع "ماركس دوغموا"، شقةٌ يساهم في دفع إيجارها بدون عقد
باسمه يساعد في دخول السيستم الفرنسي، بل تجبره على تحمل إعاقة رفقاء السكن عن
تطوير نفسه.
أزحتُ بيدي اليسرى خصلة متمرة حركتها الريح أمام عيني، وتابعته يواصل: سأقدم
لك كل الضمانات، ويمكنني دفع ايجار مدة عام، من أجل الحصول على عقد إيجار شقة
باسمي؛ حتى أتمكن من دفع الضرائب ودخول السيستم الفرنسي. وبعدها سأصبر خمس سنوات،
أواصل فيها تطوير نفسي لحين الحصول على كارت إقامة، يمكنني من مواصلة دراسات عليا
في مجال يساعدني على الحصول على وظيفة أفضل، على فتح شركتي الخاصة.
أنا محظوظ لأن راتبي من وظيفة غسل الصحون، في مطعم لبناني-فرنسي، يقدم الأكل
الحلال لسياح عرب الخليج عند تقاطع شارع واشنطن مع شارع الشانزليزيه، يفوق أكثر من
راتب موظف حكومي.
ماذا أريد أكثر من ذلك؟ تضيع الوقت في سماع تكرار شكوى الشباب المكتئبين في
أحياء المهاجرين في "لاشَابِيل" و"سْتَالِينْغْرَاد"، وهم
يسبون الحكومة السودانية تارة، وتارة أخرى يشتمون الحكومة الفرنسية لتضييقها
الخناق على المهاجرين؟ وتارة ثالثة يسبون خالق الكون؟ ثم يتوقعون من الكون أن يكون
كريمًا معهم؟
نصحتهم
كثيرًا بشغل أنفسهم بتعلم اللغة الفرنسية، لضمان تسهيلات مستقبلية في هذا البلد،
لكنهم سخروا مني ونعتوني بالمثقف الضال، ودعوني للشراب معهم للنسيان بدل التفلسف.
لهذا لما أدركتُ أنه بمحاولاتي انقاذهم سيجرونني معهم إلى القاع وسنغرق سويًا،
قررتُ البعد عنهم، رغم حزني عليهم؛ فهم أبناء بلدي وأحب لهم الخير وأتمنى أن ينصلح
حالهم.
وكما تركتُ وطني وأهلي وركبتُ البحر بحثًا عن حياة كريمة، سأظل أبتعد وأترك أي
مكان لا تناسبني طاقاته، حتى أجد مكاني الصحيح في هذا العالم.
لهذا أريد السكن في هذه الدائرة، لكي أقاطع بشرًا تحيطهم طاقات العمل
والإنتاجية والغنى، ليس فقط غنى المال، ولكن غنى الطاقة، التي هي بوابة الوفرة
المادية.
وأنا واثق أن
كل محنة سأمر بها ستزول بفضل إيماني بالله الذي انجاني من الغرق في البحر المتوسط،
وأنني سأتمكن من توفير مال خلال هذه السنوات الخمس القادمة، يساعدني في الحصول على
قرض بنكي، ما أن أحصل على الأوراق؛ لأشتري بيتا في الريف بعيدًا عن ضوضاء المدينة
وتلوثها، عسى أن أكون قد التقيتُ بفتاة تشبهني روحيا وفكريًا؛ لأفتح لها صنابير
عاطفة حبي واحتويها واساعدها أن تعلمني معاني السكن والدفء. فالرجل بدون امرأة
تشبهه روحيًا يسكن إليها، سيشعر بالبرودة طوال حياته، وجميع نساء العالم لن تدفئه،
ولا حتى نيران الأرض.
اجتاحتني قشعريرة من قوة كلماته، وازداد تجلجل دواخلي، أثناء وعدي له بأن
أساعده ما دام يؤمن بنفسه كل هذا الإيمان، وأن أجعله يحصل على هذا السكن، مهما
كلفني الأمر، حتى وإن أخسر وظيفتي، وأكسب ابتعادي من زميلتي القميئة.
-
شكرًا إيزابيلا، أنا محظوظ بالتعرف عليكِ.
يا إلهي! هل اسمي بهذا الجمال؟
يا إلهي! هل أنا أحلم؟ أم أن هذه كذبة أبريل لي من الكون؟
لا، أبريل لم يأتِ بعد. اليوم الجمعة 31 مارس، قرأتُه هذا الصباح في صحيفة
"20 minutes"، أثناء مجيء
للعمل بميترو "14".
غصتُ في صفاء عينيه السوداويين اللتان تطالعاني بإعجاب، فشلتْ حركتي، حتى كدتُ
اختنق أثناء بلعي للقمة تسمرت في حلقي. أصابه هلع، عندما بدأت أسعل، فأسرع يمد لي
قارورة الماء من الكيس الموضع بيننا. أخذتُ جرعة هدأت روعي، شكرته بعدها ثم سألته:
متي سيأتيني بالملف كاملًا.
أجابني بسؤال إن كنا نعمل غدًا السبت، فهززتُ رأسي بالإيجاب فرحًا من أنني
سألتقيه غدًا، ومن تأكدي بأننا اليوم الجمعة، آخر يوم في شهر مارس، وبأن الكون لم
يدبر لي كذبة أبريل.
ولكي أبدد ارتباكي من نظرته الثاقبة، هرعتُ ألملم أغراضي اثناء اخباره بمحين
عودتي للعمل، فسبقني بالنهوض؛ لتهبني رائحة عطره وتثملني أثناء تكراره:
-
شكرًا إيزابيلا، حقيقي أنا محظوظ بالتعرف عليكِ.
وخشيتُ أن أفقد مقاومتي، واستجيب لرغبي في رمي نفسي بين ذراعيه والذوبان في
أحضانه، أثناء نطقي بتلعثم:
-
العفو، يا...........
وهنا أدرك بأنه لم يعرفني باسمه، فهرع يقدم نفسه: "ضو البيت"، ثم
ترجمه لي بالإنجليزية: " Home light".
"هُومْ
لَايِتْ"!، رددتُها بهمس؛ لاستشعر من فوري انتشار خيوط الضوء في داخلي، ضوءٌ
بدد عتمة سنوات طويلة من التيه والمرارة وفقد الإحساس بطعم الأشياء.
ولما مد يده وصافحني مودعًا، أحسستُ بالكهرباء تنتشر في كل ذرة من جسدي،
وبالجاذبية الأرضية تتخلى عن قوانينها معي.
في هذه اللحظة فقط، فهمتُ معنى أن يولد الإنسان من جديد،
وأن يكون نزوله إلى الحياة وسط كرنفال من البهاء والنقاء والفرح، داخل حضن
الطبيعة النقية الصافية الخالية من التلوث،
نزولًا آمنًا، تباركه فيه أنغام صفير الريح الفرِحة الناقلة بحماس لحبوب الطلع
تبشيرًا بموسم ربيع ناجح؛
وتدعوه فيه أغصان أشجار الصنوبر والكستناء والسرو الباسقة الوارفة؛ لكي يشاركها رقصتها السعيدة.